فصل: تفسير الآية رقم (15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (15):

{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [17/ 94].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ الْكُفَّارِ: وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الْآيَةَ [67/ 8- 9]،
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ أَنْكَرُوا إِنْزَالَ اللَّهِ الْوَحْيَ كَهَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أَيْ: لَنْ يُعَظِّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [6/ 91].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [7/ 131]، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} الْآيَةَ [27/ 47].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [11/ 29].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. قَوْلُهُ: فَطَرَنِي، مَعْنَاهُ: خَلَقَنِي وَابْتَدَعَنِي، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ ثَبْتَ لِي يَمْنَعُنِي مِنْ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِي خَلَقَنِي، وَابْتَدَعَنِي، وَأَبْرَزَنِي مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [25/ 3]، وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} الْآيَةَ [13/ 16].

.تفسير الآيات (23-24):

{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَتَّخِذُ} لِلْإِنْكَارِ، وَهُوَ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ: لَا أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعْبُودَاتٍ، إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ لَا تَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنِّي، وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ كَرْبٍ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ عَدَمِ فَائِدَةِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [39/ 38]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [17/ 56]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} الْآيَةَ [10/ 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/ 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [10/ 106]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا، أَيْ: لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ أَصْلًا حَتَّى تُغْنِيَ شَيْئًا، وَنَحْوُ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ** إِذَا سَافَهُ الْعُودُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا

فَقَوْلُهُ: لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ، أَيْ: لَا مَنَارَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى يُهْتَدَى بِهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:
لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا ** وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ

أَيْ: لَا أَرْنَبَ فِيهَا، حَتَّى تُفْزِعَهَا أَهْوَالُهَا، وَلَا ضَبَّ فِيهَا حَتَّى يَنْجَحِرَ، أَيْ: يَتَّخِذُ جُحْرًا.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ، بِقَوْلِهِمِ: السَّالِبَةُ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

.تفسير الآية رقم (30):

{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الْعِبَادَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ غَيْرَ مُكْتَفِينَ بِتَكْذِيبِهِ، بَلْ جَامِعِينَ مَعَهُ الِاسْتِهْزَاءَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ، نَصٌّ صَرِيحٌ فِي تَكْذِيبِ الْأُمَمِ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إِذَا زِيدَتْ قَبْلَهَا مِنْ، فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَهَذَا الْعُمُومُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ إِخْرَاجُ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَنْ حُكْمِ هَذَا الْعُمُومِ بِمُخَصَّصٍ مُتَّصِلٍ، وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا الْعُمُومِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [34/ 34]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [43/ 23]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [7/ 94- 95].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} الْآيَةَ [23/ 44].
وَقَدَّمْنَا طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} الْآيَةَ [6/ 123].
وَأَمَّا الْأُمَّةُ الَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ فَهِيَ أُمَّةُ يُونُسَ، وَالْآيَةُ الَّتِي بَيَّنَتْ ذَلِكَ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [37/ 147- 148]، وَالْحَسْرَةُ أَشَدُّ النَّدَامَةِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مُنَادًى عَامِلٌ فِي الْمَجْرُورِ بَعْدَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُنَادَى الْمُضَافَ.
وَالْمَعْنَى: يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ تَعَالِي وَاحْضُرِي فَإِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالرُّسُلِ هُوَ أَعْظَمُ الْمُوجِبَاتِ لِحُضُورِكِ.

.تفسير الآيات (33-35):

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلَا يَشْكُرُونَ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى الْبَعْثِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [2/ 22]. وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} الْآيَةَ [16/ 10]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَأَوْضَحْنَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ، بَقِيَّةَ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} الْآيَةَ [16/ 14].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}. ذَمَّ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْكُفَّارَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} الْآيَةَ [6/ 4- 5]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ يُوسُفَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [12/ 105]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [54/ 1- 2]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} [37/ 13- 14]، وَأَصْلُ الْإِعْرَاضِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُرْضِ بِالضَّمِّ، وَهُوَ الْجَانِبُ؛ لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ يُوَلِّيهِ بِجَانِبِ عُنُقِهِ صَادًّا عَنْهُ.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ}. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ النَّفْخَةَ الْأَخِيرَةَ، وَالصُّورُ قَرْنٌ مِنْ نُورٍ يَنْفُخُ فِيهِ الْمَلَكُ نَفْخَةَ الْبَعْثِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ، وَإِذَا نَفَخَهَا قَامَ جَمِيعُ أَهْلِ الْقُبُورِ مِنْ قُبُورِهِمْ، أَحْيَاءً إِلَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} جَمْعُ جَدَثٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْقَبْرُ، وَقَوْلُهُ:
يَنْسِلُونَ، أَيْ: يُسْرِعُونَ فِي الْمَشْيِ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَحْشَرِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [70/ 43]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} الْآيَةَ [50/ 44]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي} الْآيَةَ [54/ 7]، وَقَوْلُهُ: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي، أَيْ: مُسْرِعِينَ مَادِّي أَعْنَاقِهِمْ عَلَى أَشْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ نَسَلَ بِمَعْنَى أَسْرَعَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [21/ 96]، وَقَوْلُ لَبِيدٍ:
عَسَلَانُ الذِّئْبِ أَمْسَى قَارِبًا ** بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يَقُومُونَ أَحْيَاءً عِنْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [39/ 68]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [36/ 53]، وَهَذِهِ الصَّيْحَةُ هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [50/ 42]، أَيِ: الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [79/ 13- 14]، وَالزَّجْرَةُ: هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ. وَالسَّاهِرَةُ: وَجْهُ الْأَرْضِ وَالْفَلَاةُ الْوَاسِعَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ:
يَرْتَدْنَ سَاهِرَةً كَأَنَّ جَمِيمَهَا ** وَعَمِيمَهَا أَسْدَافُ لَيْلٍ مُظْلِمِ

وَقَوْلُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ:
وَسَاهِرَةٍ يَضْحَى السَّرَابُ مُجَلِّلًا ** لِأَقْطَارِهَا قَدْ جِئْتُهَا مُتَلَثِّمَا

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [37/ 19]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [30/ 25]، وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [17/ 52]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} الْآيَةَ [30/ 56].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [18/ 26]، وَأَوْضَحْنَا فِيهِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ النُّظُمِ الْوَضْعِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9].

.تفسير الآية رقم (62):

{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}. قَوْلُهُ: جِبِلًّا كَثِيرًا، أَيْ: خَلْقًا كَثِيرًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [26/ 184]، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِ الشَّيْطَانِ أَضَلَّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ بَنِي آدَمَ جَاءَ مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [6/ 128]، أَيْ: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ أَيُّهَا الشَّيَاطِينُ، مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ، وَقَدْ قَالَ إِبْلِيسُ: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [17/ 62]، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الظَّنَّ الَّذِي ظَنَّهُ بِهِمْ مِنْ أَنَّهُ يُضِلُّهُمْ جَمِيعًا إِلَّا الْقَلِيلَ صَدَّقَهُ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [34/ 20]، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ: جِبِلًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: جُبُلًا، بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: جُبْلًا، بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَسْكِينِ الْبَاءِ مَعَ تَخْفِيفِ اللَّامِ، وَجَمِيعُ الْقِرَاءَاتِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ: خَلْقًا كَثِيرًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ شَهَادَةِ بَعْضِ جَوَارِحِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [24/ 24]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي فُصِّلَتْ: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [40/ 20- 21]. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [4/ 42].
وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ آيَةَ يس هَذِهِ تُوَضِّحُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [4/ 42] مَعَ قَوْلِهِ عَنْهُمْ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [6/ 23]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (68):

{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ}. قَوْلُهُ تَعَالَى: {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أَيْ: نُقَلِّبُهُ فِيهِ، فَنَخْلُقُهُ عَلَى عَكْسِ مَا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ أَنَا خَلَقْنَاهُ عَلَى ضَعْفٍ فِي جَسَدِهِ، وَخُلُوٍّ مِنْ عَقْلٍ وَعِلْمٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ يَتَزَايَدُ وَيَنْتَقِلُ مَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَيَرْتَقِي مِنْ دَرَجَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَيَسْتَكْمِلَ قُوَّتَهُ وَيَعْقِلَ وَيَعْلَمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، فَإِذَا انْتَهَى نَكَّسْنَاهُ فِي الْخَلْقِ، فَجَعَلْنَاهُ يَتَنَاقَصُ حَتَّى يَرْجِعَ فِي حَالٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِ الصَّبِيِّ فِي ضَعْفِ جَسَدِهِ، وَقِلَّةِ عَقْلِهِ، وَخُلُوِّهِ مِنَ الْعِلْمِ. وَأَصْلُ مَعْنَى التَّنْكِيسِ: جَعْلُ أَعْلَى الشَّيْءِ أَسْفَلَهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} الْآيَةَ [30/ 54]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} الْآيَةَ [95/ 4- 5]، عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [22/ 5]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي النَّحْلِ: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [16/ 70]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [40/ 67].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: نُنَكِّسْهُ بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى، وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ الْمَكْسُورَةِ، مِنَ التَّنْكِيسِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى، وَإِسْكَانِ الثَّانِيَةِ، وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً مُضَارِعُ نَكَسَهُ الْمُجَرَّدِ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: أَفَلَا يَعْقِلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [26/ 124]، وَذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِذَلِكَ هُنَاكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} الْآيَةَ [27/ 80]. وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [35/ 22].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [16/ 4].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ إلى قوله تعالى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ، مَعَ بَيَانِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ.

.تفسير الآية رقم (82):

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [16/ 40]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَا تُنَافِي مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الشَّيْءِ عَلَى الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقِرَاءَتَيْنِ وَتَوْجِيهَهُمَا فِي قَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ، هُنَاكَ.

.سُورَةُ الصَّافَّاتِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}. أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِـ {الصَّافَّاتِ} هُنَا، وَالزَّاجِرَاتِ، وَالتَّالِيَاتِ: جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ صَافُّونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [37/ 165- 166]، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ صَافِّينَ: أَنْ يَكُونُوا صُفُوفًا مُتَرَاصِّينَ بَعْضُهُمْ جَنْبَ بَعْضٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَصُفُّونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي السَّمَاءِ، يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ لَنَا تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاتِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [67/ 5- 6] فَقَوْلُهُ: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا كَقَوْلِهِ هُنَا: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي تَتْلُوهُ تُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى نَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَقَوْلُهُ: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، أَيْ: لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، أَيْ: بِذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي نَتْلُوهُ وَتُلْقِيهِ، وَالْإِعْذَارُ: قَطْعُ الْعُذْرِ بِالتَّبْلِيغِ.
وَالْإِنْذَارُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [7/ 1- 2]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ، وَقِيلَ: تَزْجُرُ الْخَلَائِقَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِالذِّكْرِ الَّذِي تَتْلُوهُ، وَتُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ.
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّافَّاتِ وَالزَّجِرَاتِ وَالتَّالِيَاتِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ؛ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا. وَزَادُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ بِهِ: مَسْرُوقًا وَالسُّدِّيَّ وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الصَّافَّاتِ فِي الْآيَةِ الطَّيْرُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ، وَاسْتَأْنَسَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} الْآيَةَ [67/ 19]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} الْآيَةَ [24/ 41].
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِـ {الصَّافَّاتِ} جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ يَصُفُّونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ لِلصَّلَاةِ، وَيَصُفُّونَ فِي غَزْوِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [61/ 4].
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا: الْمُرَادُ بِـ {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} وَ{فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} جَمَاعَاتُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ يُلْقُونَ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ، وَيَزْجُرُونَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِآيَاتِهِ، وَمَوَاعِظِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمِ: الْمُرَادُ بِـ {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا}: جَمَاعَاتُ الْغُزَاةِ يَزْجُرُونَ الْخَيْلَ لِتُسْرِعَ إِلَى الْأَعْدَاءِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ قَائِلًا. وَوَجْهُ تَوْكِيدِهِ تَعَالَى قَوْلَهُ: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَبِأَنَّ وَاللَّامِ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلَهِ وَاحِدًا إِنْكَارًا شَدِيدًا وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا شَدِيدًا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [38/ 5]، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} فَكَوْنُهُ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي جَعَلَ فِيهَا الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ.
وَهَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي أَقَامَهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، أَقَامَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [2/ 163] فَقَدْ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مُتِّصِلًا بِهِ:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [2/ 164].
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا حُكْمُ الْفَاءِ إِذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً فِي الصِّفَاتِ؟ قُلْتُ: إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرَتُّبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ؛ كَقَوْلِهِ:
يَا لَهْفَ زِيَابَةَ لِلْحَارِثِ الْـ ** صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآئِبِ

كَأَنَّهُ قِيلَ: الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ، وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ كَقَوْلِكَ: خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ. وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِ مَوْصُوفَاتِهَا فِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِينَ، فَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ الثَّلَاثَةِ يَنْسَاقُ أَمْرُ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ فِي الصِّفَاتِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْقَوَانِينِ هِيَ فِيمَا أَنْتَ بِصَدَدِهِ؟
قُلْتُ: إِنْ وَحَّدْتَ الْمَوْصُوفَ كَانَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الصِّفَاتِ فِي التَّفَاضُلِ، وَإِنْ ثَلَّثْتَهُ فَهِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْمَوْصُوفَاتِ فِيهِ.
بَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذَا أَجْرَيْتَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَجَعَلْتَهُمْ جَامِعِينَ لَهَا فَعَطْفُهَا بِالْفَاءِ يُفِيدُ تَرَتُّبًا لَهَا فِي الْفَضْلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِلصَّفِّ، ثُمَّ لِلزَّجْرِ ثُمَّ لِلتِّلَاوَةِ. وَإِمَّا عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَرَدْتَ الْعُلَمَاءَ وَقُوَّادَ الْغُزَاةِ. وَإِنْ أَجْرَيْتَ الصِّفَةَ الْأُولَى عَلَى طَوَائِفَ وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ عَلَى أُخَرَ، فَقَدْ أَفَادَتْ تَرَتُّبَ الْمَوْصُوفَاتِ فِي الْفَضْلِ أَعْنِي أَنَّ الطَّوَائِفَ الصَّافَّاتِ ذَوَاتِ فَضْلٍ، وَالزَّاجِرَاتُ أَفْضَلُ، وَالتَّالِيَاتُ أَبْهَرُ فَضْلًا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ بِالصَّافَّاتِ الطَّيْرَ، وَبِالزَّاجِرَاتِ كُلَّ مَا يَزْجُرُ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَبِالتَّالِيَاتِ كُلَّ نَفْسٍ تَتْلُو الذِّكْرَ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَاتِ مُخْتَلِفَةٌ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ هَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ اعْتِرَافُ الزَّمَخْشَرِيِّ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا ذَكَرَهُ: هَلْ هُوَ كَذَا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا يَقُولُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ جَوَّزَ فِيهِ النَّقِيضَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا جَزَمَ بِهِ.
وَالْأَظْهَرُ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ إِشْكَالٌ أَنَّ التَّرْتِيبَ بِالْفَاءِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وَالْإِتْيَانِ بِأَدَاةِ التَّرْتِيبِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ فَقَطْ، دُونَ إِرَادَةِ تَرْتِيبِ الصِّفَاتِ أَوِ الْمَوْصُوفَاتِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [90/ 11- 17]، فَلَا يَخْفَى أَنْ ثُمَّ حَرْفُ تَرْتِيبٍ وَأَنَّ الْمُرَتَّبَ بِهِ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرَتُّبَ لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ إِلَّا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الْآيَةَ [6/ 153- 154] كَمَا لَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ ذِكْرِيٌّ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [2/ 199]، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ:
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ** ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَرَبُّ الْمَشَارِقِ، لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْمَشَارِقَ وَحْدَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمَغَارِبَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا دَفْعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ: وَجْهُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، فَقُلْنَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [2/ 115]، مَا لَفْظُهُ أُفْرِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَثَنَّاهُمَا فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [55/ 17]، وَجَمَعَهُمَا فِي سُورَةِ: {سَأَلَ سَائِلٌ}، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [70/ 40]، وَجَمَعَ الْمَشَارِقَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [2/ 115] الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَهُوَ صَادِقٌ بِكُلِّ مَشْرِقٍ مِنْ مَشَارِقِ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ، وَكُلُّ مَغْرِبٍ مِنْ مَغَارِبِهَا الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مَا نَصُّهُ: وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الَّذِي تُشْرِقُ مِنْهُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ وَالْمَغْرِبُ الَّذِي تَغْرُبُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ.
فَتَأْوِيلُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: وَلِلَّهِ مَا بَيْنَ قُطْرَيِ الْمَشْرِقِ وَقُطْرَيِ الْمَغْرِبِ إِذَا كَانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا تَعُودُ لِشُرُوقِهَا مِنْهُ إِلَى الْحَوْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [55/ 17]، يَعْنِي مَشْرِقَ الشِّتَاءِ، وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ وَمَغْرِبَهُمَا، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَقِيلَ: مَشْرِقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَهُمَا.
وَقَوْلُهُ: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أَيْ: مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} الْآيَةَ [37/ 6].
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} الْآيَةَ [6/ 97]. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ السَّبْعَةُ غَيْرُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ، بِإِضَافَةِ زِينَةِ إِلَى الْكَوَاكِبِ، أَيْ: بِلَا تَنْوِينٍ فِي زِينَةِ مَعَ خَفْضِ الْبَاءِ فِي الْكَوَاكِبِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ، وَخَفْضِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ زِينَةٍ. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبَ بِتَنْوِينِ زِينَةٍ، وَنَصْبِ الْكَوَاكِبِ، وَأَعْرَبَ أَبُو حَيَّانَ الْكَوَاكِبَ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ إِعْرَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَوَاكِبَ بَدَلٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ} [37/ 6].
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِ: زِينَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} الْآيَةَ [90/ 14- 15].
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: أَعْنِي الْكَوَاكِبَ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَيُحْذَفُ النَّاصِبُهَا إِنْ عُلِمَا وَقَدْ يَكُونُ حَذْفُهُ مُلْتَزَمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} الْآيَةَ [15/ 17- 18] فِي سُورَةِ الْحِجْرِ.